غزة ليست مجرد “حدث”

Facebook
Twitter
X
WhatsApp

غزة ليست مجرد “حدث”، بل هي معيار لصدق الضمير المهني، وما يجري فيها لا يفضح الاحتلال فقط، بل يُعري هذا العالم الذي يتغنى بالإنسانية وحقوق الإنسان

فعندما نتأمل حال غزة، ندرك أن المسألة أعقد من مجرد ملل إنساني، بل في أن هناك إرادة منظمة تحرص على أن يُنسى ما يجب ألا يُنسى. أن يُحجب ما يجب أن يُرى. ولم يعد المشهد الإنساني مجرد أفراد يتعاطفون ثم يزهدون. بل أصبحنا أمام عالم تُدار مشاعره كما تُدار الأسواق والسياسات.

إننا نعيش في زمن يتم فيه تحديد ما يُسمح لنا أن نشعر به وما يُطلب منا أن نتجاهله. تُفتح شاشات الإعلام لأحداث بعينها، وتُغلق تماما أمام أحداث أخرى. يُضخ خطاب “الإنسانية” في بعض المواقف، ويُسحب على نحو فج في أخرى. إنها ليست أزمة “ذاكرة قصيرة” عند الإنسان، بل أزمة إرادة كبرى تتحكم في الضمير الجمعي.

ذلك أن غزة لا تُقتل فقط بالقصف ولا بالحصار الذي يجوع أهلها فحسب، بل أيضا بالصمت الممنهج الذي يُفرض على العالم. فحين يُصادر الحق في أن ترى، أو أن تعبر، أو أن تتفاعل، يصبح الألم مضاعفا.

لقد تحول “الضمير العالمي” إلى وعاء، يُملأ حين تشاء القوى الكبرى، ويُفرغ حين تشاء، بلا ثبات ولا بوصلة أخلاقية.

وفي ظل هذا التحكم والأجندات السياسية، برز الإعلام الغربي أيضا وسقط كثير من منصاته في الاختبار حيال إبادة غزة.

المؤسسات التي كانت تُقدم نفسها كـ”ضمير العالم”، تُمارس اليوم ازدواجية فاضحة. فحين شنت روسيا حربها على أوكرانيا، امتلأت الشاشات الغربية بالتغطيات المباشرة، والقصص الإنسانية، والتحليلات المتعاطفة. لكن حين تُباد غزة، لا يظهر الطفل الفلسطيني إلا كرقم، ولا تُروى مآسيه إلا بلغة باهتة تُخفي أكثر مما تُظهر، باستثناء القليل.

وفي ظل حال كهذا، لم يعُد الانحياز خفيا، بل صار جزءا من بنية السرد الإعلامي، يُقلل من معاناة الضحية إن لم تكن على “الهوى السياسي”، ويُجمل القاتل إذا كان “حليفا إستراتيجيا”.

اختزال المأساة في أن الناس يملون التعاطف، يُبرئ آليات القمع والسيطرة على المشاعر. بينما الواقع يكشف أن هناك عملا دؤوبا على محو غزة من الوعي

هكذا يُدار التعاطف، وهكذا يُختطف الوعي. ليس فقط بالصمت، بل بطريقة بناء الخبر، واختيار المصطلح، وتوقيت التغطية. غزة ليست مجرد “حدث”، بل هي معيار لصدق الضمير المهني، وما يجري فيها لا يفضح الاحتلال فقط، بل يُعري هذا العالم الذي يتغنى بالإنسانية وحقوق الإنسان.

والجوهر اليوم لم يعد في التساؤل عن “ملل التعاطف”، بل في مواجهة سؤال أعمق: من يمنعنا من أن نشعر أصلا؟ لأن اختزال المأساة في أن الناس يملون التعاطف، يُبرئ آليات القمع والسيطرة على المشاعر. بينما الواقع يكشف أن هناك عملا دؤوبا على محو غزة من الوعي، وتجريد العالم من القدرة حتى على البكاء من أجلها.

الإنسان لا يسأم التعاطف، ولا يألف مصاب أخيه. لكن قوى كبرى تتحكم في مشاعره، تقهره، وتكبله بالإحباط، وتعيد تشكيل ضميره الجمعي كما تشاء.
وعلى الرغم من كل ذلك، تبقى غزة جرحا نازفا يختبر إنسانية هذا العالم الميت كل يوم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الاخبار المتعلقة:

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي يشير إلى الأنظمة أو الآلات التي يمكنها محاكاة الذكاء البشري لأداء المهام، كما تملك القدرة على تحسين نفسها

Read More »

السياسة والعالم

السياسة والإنسانية l 9 فبراير 2023 – 13:46 بتوقيت أبوظبي يقولون إن السياسة هي “فن الممكن” ومجال التوافق والحلول الوسط، حتى

Read More »

الفن السوري

الفن السوري: تاريخ متنوع وتأثيرات عميقة  8 دقائق فيسبوك ‫X لينكدإن بينتيريست ماسنجر مشاركة عبر البريد الفن السوري يمتلك تاريخًا غنيًا ومتعدد الأبعاد، يعكس تأثيرات

Read More »

التعليم بتركيا

نظام التعليم في تركيا لجميع المراحل الدراسية: المميزات والعيوب يونيو 26, 2025 المدونة الدراسة في تركيا فهرس المحتويات يبرز نظام التعليم في

Read More »

الدولار وتركيا

تحليل الليرة التركية وتوقعات الليرة التركية لعام 2025 وما بعده: البنك المركزي التركي يواصل خفض أسعار الفائدة مع تراجع ضغوط

Read More »
Scroll to Top